يظن السواد الأعظم من القائمين على أمر الدعوة الإسلامية أن الصورة الوحيدة للتمكين هي السيطرة على الحكم والقيادة العلياء في البلاد ، لذلك نجدهم بمجرد أن يجتمعوا يبدأون التخطيط السري للسيطرة على مقاليد الحكم ، وتبدأ سلسلة من الأحداث المأساوية والانشطارية التي تؤدي إلى إجهاض العمل لله وتصفية الدعوة إلى الله ، وانتكاس جميع الخطوات ، وهدم المكاسب ، وتخويف الناس ، وضياع الدعوة .
يقول الدكتور علي الصلابي حفظه الله في رسالته الجامعة القيمة فقه التمكين في القرآن الكريم يقول : إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة ، وأمور متنوعة من أهمها تبليغ الرسالة ، وهزيمة الأعداء ، وإقامة الدولة . انتهى .
ونحن نقول أن من وجوه النصر والتمكين تربية الأبناء والأجيال على الصدق والأمانة والإبداع في العمل , وتعمير الكون بنواميس الله في الخلق ، والتفوق العلمي للمسلمين وبناء المدارس لتعليم أبناء المسلمين ، والحفاظ على لغة القرآن الكريم ، وبناء المصحات لعلاج ووقاية المسلمين من الأمراض البدنية والنفسية والعقلية ، وإنشاء المدن الإسلامية النظيفة والمتوافقة مع البيئة ، وبناء الجامعات المتطورة ، ومراكز البحوث الفعالة ، وإقامة نظام تعليمي إبداعي مع المحافظة على الهوية الإسلامية والاعتزاز بدين الله ، والعمل الجاد والبعد عن المظهرية ، والشعارات الفارغة والديماغوجية في الدعوة والتربية ، وإقامة نظم اقتصادية إسلامية ، ونظم سياحية إسلامية ، مع البعد عن التصادم والعنف مع النظم والمجتمعات التي نعيش فيها ، فقد ثبت أن النظر إلى التمكين بأنه فقط التمكين في الحكم أدى إلى إجهاض كل أنماط التمكين المهمة والضرورية ، فقد مكن التجار المسلمون والمعلمون المسلمون والفقهاء المسلمون للإسلام في دول شرق آسيا من دون جيوش أو سيوف أو قتال ، وقد ثبت أن التمكين التربوي أهم وأبقى من التمكين السياسي القسري الذي يجعل الناس يتفلتون من دينهم عند بعدهم عن الرقابة الاجتماعية والسياسية والشرطية .
كما أن التمكين التربوي يحتاج إلى صبر ومصابرة ، فعملية التربية عملية شاقة طويلة الأمد لا تظهر نتائجها في الحال ، بخلاف العمليات العسكرية التي أصبحت يسيرة في ضوء أسلحة التدمير الحديثة ، والفرد الواحد يستطيع أن ينسف آلافًا في لحيظة واحدة بتفجيرة واحدة ولكن يصعب عليه أن يربي طفلاً تربية سوية صحيحة يجعل منه رجلاً يستطيع أن يتحمل المسؤولية .
فتبليغ الدعوة ، والتربية نمط مهم من أنماط التمكين التي يجب أن نحرص عليها ونعمل بها ومن أنواع التمكين في القرآن الكريم قال تعالى : " واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ، قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ، وما علينا إلا البلاغ المبين ، قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ، قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون ، وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ، اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون ، ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة أن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئًا ولا ينقذون ، إني إذا لفي ضلال مبين ، إني آمنت بربكم فاسمعون ، قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ، وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين ، إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون , يا حسرة على العبادة ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ، ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون , وإن كلاً لما جميع لدنيا محضرون " [يس: 13-32] .
يقول الدكتور علي الصلابي حفظه الله في فقه التمكين في القرآن الكريم أن في هذه الآيات العديد من معاني النصر والتمكين فأهل هذه القرية لم يستجيبوا لدعوة المرسلين ومضوا في كفرهم وعنادهم غير مبالين ، وهددوا المرسلين بالرجم والعذاب الأليم ، والمتأمل في الآيات تظهر له بعض معاني النصر والتمكين التي حققها المرسلون ، وبذلك يكونوا قد نصروا نصرًا مأزرًا ، وأن أصحاب القرية هم الخاسرون .
إن معاني النصر ظهرت في الحقائق التالية :
تمكين الله تعالى للمرسلين ، بحيث استطاعوا تبليغ رسالته ، ولم يستسلموا لشبه أهل القرية أولاً ، وتهديهم لهم ثانيًا ، وهذه من مهمتهم " وما علينا إلا البلاغ المبين " [يس: 17] . ومن أدى ما عليه فقد انتصر وفاز ونجح . انتهى .
وهنا نلاحظ أن مسؤولية الداعية والمربي أن يؤدي واجبه على الوجه الأكمل ، كما قال الشيخ عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان في قوله تعالى : ( " وما علينا إلا البلاغ المبين " قال : أي البلاغ المبين الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها ، وما عدا هذا من آيات الاقتراح ، أو من سرعة العذاب ، فليس إلينا ، وإنما وظيفتنا هي البلاغ المبين أي الواضح ، قمنا بها ، وبيناها لكم ، فإن اهتديتم ففيه حصدكم وتوفيقكم ، وإن ضللتم ، فليس لنا من الأمر شيئًا ) . انتهى .
وهذا يوجب على الداعية أن يكون على بصيرة بما يدعو إليه ، وعلى علم بما يعلم وأن يكون على بصيرة بمن يدعوهم وبلغتهم ومعتقداتهم ، وعاداتهم وتقاليدهم ، حتى لا يبدأ معهم بما ينفرهم منه ، ولا يدعوهم حتى يتألفوه ويتألفهم ، ويثقون فيه وفي علمه وصحة دعوته ، فإذا كنت في قرية صوفية بدعية خرافية فلا تبدأ معهم ببيان بدعهم وخطورة دعوتهم ، ولكن عليك ببيان معنى كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وبيان أهمية التوحيد الخالص ، وتشرح لهم آيات العقيدة والتوحيد من دون العروج إلى معتقداتهم بما تعلمه لهم من العلم الواضح النافع الصحيح ، علمهم معنى الحديث الصحيح ، والحديث الضعيف ، والحديث المكذوب ، وخطورة الأحاديث المكذوبة على المسلم ، وهكذا تضع لهم خطة دعوية ، تربوية طويلة الأمد ، فإن فهموا وارتدعوا عن بدعم وغيرهم فقد كسبت ، وإن لم يرتدعوا فقد بلغت بلاغاً شرعيًا علميًا صحيحًا ، وإن استجاب لك بعضهم فقد نجحت في زلزلة صفوفهم .
إذا كنت في أفريقيا فلا تبدأ بمهاجمة الرقص والموسيقى ( كما قال الدكتور القرضاوي ) ولكن علمهم القرآن ، وترتيل القرآن ، والصلاة ، والصيام ، والمحبة وشوقهم إلى الحج ، وإذا كنت في الهند فلا تبدأ بمهاجمة الأبقار وأصنام بوذا , وهذا من فقه الدعوة ، ومن البيان المبين ، عليك كما فعل التجار المسلمون في الهند والصين واندونيسيا وبلاد شرق أسيا , عليك بالصدق في القول ، والصدق في العمل ، والإتقان في كل ما نقوم به ، والبعد عن الغش واللف والدوران حتى إذا وثقوا فيك ابدأ معهم بعظائم الأمور وبطريقة علمية تربوية صحيحة وليكن شعارك " وما علينا إلا البلاغ المبين " فإذا ائتلفوك وتزوجت منهم وعاملت ابنتهم معاملة حسنة يمكنك الولوج إلى معتقداتهم الخاطئة بحذر وذكاء وكياسة فإذا استجاب لك أحدهم اجعله يدعوهم نيابة عنك وأنت تراقبه وترشده .
إنني أنصح الجميع بقراءة قصة أصحاب القرية كما أوردها الدكتور علي الصلابي وكذلك قراءة قصة أصحاب الأخدود التي أوردها ، والتي شرحناها شرحًا تفصيليًا في كتابنا ( قصة الساحر والراهب والغلام ) وبينا الدروس المستفادة منها ، ومنفعتها لهم ، وهذا ما يقوم به المنصرون بين الناس حيث يداونهم ، ويعلمونهم ، ويثقفونهم ، وينفقون عليهم , ثم بعد ذلك يدعونهم فنحن أولى بذلك منهم وهذا نوع من التمكين التربوي الاجتماعي العظيم النفع في الدعوة إلى الله . ( وللحديث بقية بإذن الله )